معايشة الحدث ومنهجية الاعتبار
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ..
جدير بالمؤمن ألا تمر عليه الأحداث وهو عنها غافل ، ومنها غير مستفيد
فمعايشة الانسان للأحداث واكتسابه العبر منها تزيده اعماراً إلى عمره ، كما أن تأمله للوقائع والتجارب يضيف عقولاً إلى عقله .
لذلك يظهر الفرق واضحاً - أيما وضوح - بين رجلين : رجل عاصر الأحداث فتأملها ونظر فيها وحللها واعتبر بها ، وآخر تمر الدهور عليه وهو عنها غافل ، وإن أعارها من الاهتمام شيئاً كان سطحياً في نظرته ، ظاهرياً في فكره .
وجل الناس حين ينظرون الى حدثٍ ما إنما يتأثر نظرهم إليه بما لديهم من معتقدات ، وما يحملون في رؤوسهم من أفكار ، وبناء على ذلك تتعدد النتائج ، وتختلف العبر ، بناءً على اختلاف وجهات النظر..
فتجد بعض الناس يحلل الحدث تحليلاً مادياً بحتاً ، يحسن حساب أسبابه الظاهرية الملموسة غير ملتفت لأي مؤثرٍ آخر .. ومشكلته أنه لا يعرف غير عالم المادة ولا يدرك أبعد من دنيا الحس ، ثم هو يجهل - أو ينسى- أن من سبَّبَ هذه الأسباب وجعلها تؤتي ثمارها وتؤثر في الأحداث تأثيرها إنما هو الله الذي له ( الخلق والأمر ) .و (له مقاليد السموات والأرض( .
بينما تجد ثانياً يسرح في عالم الخيال .. ليجعل الأمور منشأها ومبدأها ومنتهاها ومآلها إلى ( القوى الغيبية ) التي لا دخل لنا فيها ، وبلية (صاحب الصومعة ) هذا أنه دفن (حقائق الحياة) تحت جنادل خلوته ، ووارى (سنن الكون) بين طيات عزلته ، فكان أن صار كل شئ في نظره مسيراً ، كالريشة في مهب الريح ، فلا ينبغي - عنده - أن ( نقلَّ الأدب مع القدر) بمدافعة باطل ، ولا أن(نلقي بأيدينا إلى التهلكة) بمجاهدة ظالم ، فإن من (ولاه) هو( الله ) ومن يقدر على عزله إنما هو (الله) ، فما دخلنا بشأن ليس له إلا (الله) ؟!!
والحق - من وجهة نظري - إنما يتمثل في أن يبنى تعاملنا مع الحدث على منهج فكري متزن متمثل في القواعد الآتية :
1- أولها الوسطية ومجافاة الشطط :
فالحق دائما وسط بين باطلين هما الإفراط والتفريط . ونحن نعيش هذه الحياة نؤثر فيها كما نتأثر ، فكما أننا نقع تحت سطوة القدر فإنما نجني ما كسبته أيدينا .
وعالم الاسباب ليس (عالماً وهمياً ) كلا ، بل إن سنة الله مضت أن الحياة أسباب ومسببات ، فمن أهمل أسباب النصر لم ينتصر ، كما أن من قعد عن طلب اللقمة مات جوعاً .. وكما قال الفاروق : (إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ) .
هكذا ينبغي أن ينظر المؤمن للحدث : يدرس أسبابه بواقعية شفافة ، متذكراً أنه ما من حدث إلا وله سبب ، واضعاً نصب عينيه أنه سائر تحت ظلال القدر الإلهي غير خارج عنه
2- ثانياً : الاستيثاق والتبين
معلوم للجميع أن ما بني على باطل كان لا محالة باطلاً ،وبضاعة المرء حين يتعامل مع حدثٍ ما ليست إلا معلوماته ، فهي التي يبني عليها نظره ،، وتكون مقدمات لأحكامه .
وحتي يسلم نظره من الطعن وتبرأ أحكامه من الخلل لابد له أن يتلقى تلك المعلومات من مصادرها الصحيحة الموثوقة .
إذن فقضية تأصيل المصدر ( أي مصدر التلقي ) أمر له خطورته في بناء الاحكام وضمان صحتها . لذلك كانت القاعدة الشهيرة ( إن كنت ناقلاً فالصحة ، أو مدعياً فالدليل(
فليس من العقل مثلاً أن يتوجه المسلم الذي يريد فهم دينه إلى كتب العلمانيين والمستشرقين الذين كتبوا عن الاسلام ، إذ ليس هذا من مصادر تلقي الاسلام أصلاً ، فضلاً عما فيه من سموم وأكاذيب ودسائس ، ومن الطبيعي بلا شك أن يخرج علينا من هذه مصادره لمعرفة الاسلام بالعجائب والغرائب والأحكام العوراء المبتورة حول الدين وفهمه .
3- ثالثاً : التجرد قبل النظر والتأمل
حينما تعالج الشيء ولك فيه رأي مسبق ، فمن الطبيعي أن يخرج حكمك عليه غير متزن ولا منصف ، بعيدا عن الواقع مجافياً الحق ، خاصة حينما تكون معلوماتك عنه مبتورة جزئية ، أو مشوبة بشيء من (اللا مصداقية )، وهذا من أبشع آفات النظر وأطغى علل الفكر، وهو للأسف من أشدها انتشاراً .
ولقد علمنا الإسلام أن ننظر للأمور بعين التجرد ، وبين لنا أن غلبة الهوى تصم الأذن عن سمع الحق ، وتعمي البصيرة عن إدراكه ، قال الله تعالى ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً ) الفرقان( 43- 44)،
بل وأمرنا أن نعدل - فكراً وحكماً - حتى في معاملة الاعداء ، ولو خرجت النتيجة في غير صالحنا ، قال الله تعالى) يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على إلا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .(المائدة ( 8 )
والحريص على الحق الباحث عنه انما يتجرد لمعرفته ، فيكون في حكمه منصفاً ، وينهض لاتَّباع الحق ونصرته بغض النظر عن تابعيه قلة كانوا أو كثرة ، بارزين كانوا أو مغمورين ، أقوياء كانوا أو ضعفاء ، أغنياء كانوا أو فقراء ، فالحق يعرف بذاته لا بأهله ، وهو أيضا أبلج واضح بأدلته وبراهينه لمن بحث عنه وتأمله ، غائب متوارٍ عن كل من غطت عينيه غشاوات الهوى.
4- رابعاً التأني وعدم التسرع في الحكم
كلما استطاع الإنسان أن يتأني ويعطي العقل فرصته الكاملة للتأمل : تجلت له الأمور ، وازدادت أمامه الصورة وضوحاً ، فتكون نظرته أثقب ، وحكمه إلى الصواب أقرب.
وليس من الواجب عليه أن يصدر الإحكام دائما في كل ما ينظر فيه ، فما لم تتوفر لديه دواعي إصدار الحكم - من حاجة ماسة ، وأدلة كافية ، وفائدة مرتجاة - فليترك إصدار الأحكام أصلاً ، فهو خير له .وهنا ينبغي أن نفرق بين إصدار الاحكام وبين نشرها والدعوة لها ، فليس كل ما يتوصل إليه فكر المرء ينبغي له إذاعته ، فإن لكل مقام مقال ، وكفى بالمرء سفها أن يحدث بكل ما عنده .
5- خامساً عدم التعميم في الأحكام
وتلك بلية كبرى ، بل من أكبر ما أصاب الكثير من الناس الآن ، حتى بعض المنتسبين للعلم والفكر.
وليس تعميم الأحكام على صورة واحدة ، فالحكم على شخصٍ ما - بغض النظر عن طبيعة هذا الحكم - بمجرد موقف أو حادثة أو حتى فترة زمنية من فترات حياته ليس من الانصاف ، كذلك الأمر بالنسبة لجماعة ما ، أو فئة أو فصيل من المجتمع ، أو ربما أهل بلدة بجملتها .
كانت هذه أهم الضوابط التي ينبغي أن يراعيها الإنسان إن أراد أن يسلم من الخطأ فكره ، وتتزن على الطريق خطاه ، وتثبت على الصراط قدمه ، ويجني من كل حدث يعايشه في دنيا الناس الفوائد والعبر. والله الموفق والهادي اليه سبيلاً .
0 التعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك يشجعنا ،، ويدفعنا للمزيد ،، فمرحباً بك ...